لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها (أف 2: 10 )
تَرِد كلمة السلوك سبع مرات في رسالة أفسس: مرة عن غير المؤمنين، ومرة عن المسيحي قبل تغييره، وخمس مرات عن حياة المسيحي في هذا العالم.
1 ـ في أصحاح2: 1 تَرِد الإشارة عن سلوكنا قبل الإيمان، عندما كنا أمواتاً روحياً.
2 ـ والمرة الثانية تَرِد في أصحاح2: 10 "لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها". فالله في رحمته ومحبته ونعمته ولطفه يُسر بأن يعمل في النفوس الميتة، مانحاً إياها حياة جديدة وطبيعة جديدة، وينتشلهم أدبياً وروحياً من الجسد ويضعهم في المسيح أمامه، مما يجعلهم أشخاصاً مختلفين في حياتهم على الأرض.
3 ـ ويُذكر السلوك للمرة الثالثة في هذه الرسالة في ص4: 1 "فأطلب إليكم ... أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم بها" ـ أي أن التعاليم الواردة في الأصحاحات الثلاثة الأولى، ينبغي أن يكون لها تأثيرها العملي في حياتنا.
4 ـ والإشارة الرابعة إلى السلوك، نجدها في القول "فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا في ما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم" (4: 17) ـ هنا تحذير ونهي. فالمسيحي وهو في العالم مُعرَّض لأن يتأثر بما يراه ويسمعه، ونحن عُرضه لأن نتمثل بعادات العالم ونقلدها. ومن ثم يحرّضنا الرسول في بداية الأصحاح الخامس أن نتمثل بالله كأولاده الأحباء.
5، 6 ـ والإشارتان الخامسة والسادسة للسلوك، نجدهما في 5: 2،8 حيث نقرأ "اسلكوا في المحبة"، "اسلكوا كأولاد نور". فالله نفسه محبة وهو أيضاً نور، هذه هي طبيعته. ونحن يجب أن نبرهن عملياً أننا قد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية.
7 ـ والمرة السابعة نجدها في ص5: 15 "فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء". وهذا التدقيق في السلوك يأتي من الحرص والحذر ويتطلب اليقظة والسهر، مفتدين الوقت، كأننا نشتريه، بمضاعفة الانتباه لسلوكنا ونشاطنا الروحي، تعويضاً لِما ضاع منا.
افتح أذهاننا يا رب لكي نمجدك بحياتنا وسلوكنا.
فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء. مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة. من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب أف5: 15-17) إذا أردنا أن نلخص الإعلان في رسالة أفسس في ثلاث كلمات موجزة، نستطيع أن نقول "جلوس ... سلوك ... وقوف"، ولزيادة التوضيح نقول "جلوس مع المسيح .. سلوك كما يليق .. وقوف بثبات". إن معظم المؤمنين يخطئون عندما يحاولون أن يسلكوا أولاً قبل أن يجلسوا، إذ أن هذا يخالف الترتيب الإلهي الصحيح. قد يكون المنطق البشري هو كيف نبلغ الهدف إن كنا لا نسير؟ وكيف ندرك ما نسعى إليه بدون مجهود؟ وهل يستطيع الإنسان أن يصل إلى أي مكان بدون أن يتحرك؟ لكن يا أحبائي أليست الحياة المسيحية شيئاً عجيباً! فإن كنا من البداية سنحاول أن نعمل شيئاً، فلن نحصل على شيء. وإذا أردنا أن نصل إلى شيء، فسيفوتنا كل شيء. ذلك لأن المسيحية لا تبدأ بعمل عظيم من جانبنا، لكن العمل العظيم قد تم. ولذلك فرسالة أفسس تبدأ بالبركة "مبارك الله ..." وتنتهي بالسلوك "اسلكوا كما يحق للدعوة ..." وهكذا توضع الأمور في نصابها الصحيح. وسلوكنا وسيرتنا يجب أن يكونا مصحوبين بالحكمة "فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة" .. هذه الحكمة التي من جهة تقتنص كل فرصة سانحة لخدمة الرب، ومن جهة أخرى تفهم مشيئته ودواعي سروره. إن الخدمة المرضية للرب ليس أننا ننفذ العمل كيفما اتفق، ولكن أن ننجزه وفق مشيئة الذي نخدمه.وهناك ارتباط بين فكرة افتداء الوقت من جانب، والسلوك بالحكمة من الجانب الآخر. وهذا الارتباط على جانب عظيم من الأهمية، ونستطيع أن نراه في مَثَل العشر عذارى، فالعذارى الحكيمات أدركن الوقت المناسب لملء المصابيح بالزيت، أما الجاهلات فلم يدركن وقت مجيء العريس، فضاعت عليهن الفرصة. إذاً فعامل الوقت هو الذي ميَّز بين الحكيمات والجاهلات. ولذلك كان من الضروري أن يجيء التحريض بعد ذلك على الملء بالروح (أف 5: 18 ). إن هذا الملء سيُخرجنا من دائرة أنفسنا لنخدم المسيح بقوة غير عادية، بل سيعرّفنا ما هي مشيئة الرب، وكيف تكون لنا الحكمة في استغلال الوقت، مغتنمين كل فرصة ومفتدين الوقت.
السلوك كأولاد نور
لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور. لأن ثمر الروح (النور) هو في كل صلاح وبر وحق (أف 5: 8 ،9)
الاختبار المسيحي يبدأ أولاً بتعلم الحق، ثم ينتهي بالضرورة بأسلوب سلوك. حينما أعرف بماذا تؤمن وتقتنع، حينئذ أستطيع أن أدرك كيف ستسلك وتعمل. وليس كما يعلّم البعض أننا نريد سلوكاً وليس مهماً ما تؤمن أو تعلم به.
لقد قال الرب عن خروف الفصح "تأكلونه، رأسه مع أكارعه وجوفه". فيجب أن نتغذى على "الرأس" الذي هو مركز الأفكار، ومن ثم سيكون لنا "الأكارع" أي أسلوب السلوك. وفوق الكل سنتغذى على "الجوف" الذي هو أحشاء المسيح.
وفي آية اليوم نجد إشارة وأيضاً تحذيراً لِما كانت عليه طبيعتنا من قبل "كنتم قبلاً ظلمة" فلأننا كنا ظلمة، فإن ميولنا الطبيعية تميل للعودة إلى أمور الظلمة من أفعال ومعاشرات. إن النور والظلمة لا يمكن أن يشتركا معاً، فبظهور النور يختفي الظلام، ولذلك يأتي التحريض بأن نتجنب أبناء المعصية (أف 5: 6 ،7).
ونلاحظ أن الناموس كان يطالب الإنسان بما ليس فيه، أما الإنجيل فيطالبنا أن نعلن ما نحن عليه بالطبيعة. والنور الذي فينا ينعكس على العالم من حولنا في صورة ثمار ـ كما يُترجم عدد9 "لأن ثمر النور هو في كل صلاح وبر وحق". إن الصلاح الذي فينا هو عكس الشر الذي في العالم، والبر هو نقيض للإثم، أما الحق فهو ضد الزيف والكذب الذي يتسم بهما العالم. وإن كانت هذه الثمار واضحة في سلوك المؤمن، فستكون النتيجة أن الناس من حولنا يتوبخون بسلوكنا العَطِر الذكي، والذي يعكس رائحة المسيح. ولذلك فالتوبيخ الذي يُنشئه النور، ليس القصد به "الوعظ والكلام" ولكن سلوك عملي وحياة نقية؛ يُظهر للعالم شره وظلمته. وفي الواقع حينما نسلك كأولاد نور سيبدأ الاحتكاك بالعالم من حولنا، وستبدأ المتاعب الحقيقية. قد يقبل العالم منا كلمات النعمة والمحبة، ولكنه لن يقبل حياة السلوك بالقداسة، لأن هذا يتطلب أن نقطع شركتنا مع الشر، سواء كانوا أشخاصاً، أو ما ينتج عنهم من أعمال. وانفصالنا عنهم هو دينونة لهم، ولذلك لا نتوقع سوى الرفض، كذلك كان الحال، وإن كان بدرجة أعظم، مع سيدنا الكريم. وفي الواقع أن "الله محبة" أكثر شيوعاً وقبولاً عند البشر من "الله نور".
السلوك في النور
ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية (1يو 1: 7 )
لقد كان معروفاً في العهد القديم أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة؛ أي أنه قدوس ويبغض الشر جداً، إلا أن العهد الجديد كشف لنا شيئاً جديداً وهو أن الله ليس فقط نور لكنه أيضاً قد صار الآن في النور (1يو 1: 5 ـ7). فالله في العهد القديم كان يسكن في الضباب وخلف حجاب، ولذلك لم يكن معروفاً إلا من خلال رموز وظلال، لم يكن ممكناً لها بالطبع أن تكشف كل ما فيه، لكن بتجسد المسيح تم المكتوب "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر" أي كشف لعيني الإنسان كل ما هو الله.وبخروج الله من وراء الحجاب ليكون في النور، لم تقف النتيجة عند حدود كشف مَنْ هو الله فقط، فالإنسان في هذا النور قد صار هو أيضاً مكشوفاً حتى النخاع، بل في الحقيقة لقد صار كل شيء في النور، فالعالم والشيطان والجسد والناموس والدِين وكل شيء أصبح الآن في النور، وهذا ليس بغريب. فالمسيح المتجسد هو الحق، وقد جاء لكي يشهد للحق، وبعد ارتفاعه أرسل الروح القدس روح الحق الذي أرشد الرسل وكتبة الوحي إلى جميع الحق، وقد ساقهم الروح القدس ليكتبوا كل الحق مكتملاً ليكون عندنا كتاب الحق. وإذا كان تعريف الحق هو أنه حقيقة الشيء، تكون النتيجة أنه بالشركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، بقوة الروح القدس، من خلال المكتوب وطبقاً له، يمكن للمؤمن أن يعرف كما عُرف.
وأعتقد أن هذا الامتياز المبارك هو من أعظم معونات المؤمن الآن على السلوك المسيحي. فرؤيتي لموقف الله من الخطية في الصليب، تملأ قلبي بالبُغضة لها وتقودني لحياة القداسة. ورؤيتي لمحبة الله التي استُعلنت لي في الصليب في بذل ابنه عني، تدفعني للتكريس له. وإدراكي لمحبة المسيح للكنيسة، تجعلني أحب زوجتي. وفهمي لمعاملات الآب المُحب الحكيم معي، ترشدني لكيفية تربية أولادي. وفهمي لحقيقة العالم، تقودني للانفصال عنه. وإدراكي لحقيقة الجسد وفساده، تساعدني في الحكم عليه وإدانته. ومعرفتي بحقيقة الشيطان وأساليبه، ترشدني في الحرب الروحية وتقودني للنُصرة. وهكذا فلقد توفر لي الآن ما لم يكن متوفراً لمؤمني التدابير السابقة، مما يجعلني قادراً على السلوك المسيحي الذي يطلبه الله مني، وفي نفس الوقت يجعلني بلا عذر إن لم أسلكه.
السلوك في المحبة