[center]
لقاءات عجيبة في القيامة
لقداسة البابا شنوده الثالث [/center]
اهنئكم يا أخوتي وأبنائي بعيد القيامة, راجيا فيه لبلادنا العزيزة سلاما وأمنا, وراجيا للعالم كله قياما من سقطته المالية, وكل آثارها المؤلمة في جميع الأقطار.. وبعد. نحن قد تعودنا في كل عام أن نتحدث عن القيامة العامة, وما تحوي من معان وأفكار وتأملات, عارفين الأهمية العظمي لقيامة الأموات, التي لولاها لتشابه البشر مع الحيوانات والحشرات والهوام, تلك التي تنتهي حياتها بالموت وبعده الفناء.... أما البشر فيمتازون بأن لهم حياة أخري بعد الموت بدايتها القيامة التي يدخلون بها إلي الحياة الأبدية التي لا تنتهي. ومن نعم القيامة أنها تفتح الباب للقاءات كثيرة وعجيبة ومجيدة, ما كان ممكنا أن تحدث إطلاقا بدون القيامة..
أول هذه اللقاءات: لقاء اثنين كانا متلازمين ومتزاملين طول العمر كله, لا يفترقان لحظة واحدة, بل إنهما كانا في وحدة عجيبة واندماج فوق الوصف.... وأعني بهذين الاثنين: الروح والجسد في كل إنسان, وفي الوحدة التي عاشاها, كانت مشاعرهما تندمج, فإن فرحت الروح, يبتسم الجسد أو يضحك ويتهلل, وإن حزنت الروح, فإن الجسد يكتئب أو يبكي, وإن دخلت الروح في مجال الصلاة, فإن الجسد يركع أو يسجد أو يقف في خشوع, وما إلي ذلك من نواحي المشاركة في كل المشاعر والانفعالات التي يسمونها في عالم الطب سيكو سوماتيك حقا كل منهما للآخر شريك العمر. هذان الصديقان المتلازمان افترقا بالموت, فصعدت الروح إلي فوق, ونزل الجسد إلي أسفل ودفن, وبقيت الروح حية لم تمت, أما الجسد فتحلل وتحول إلي تراب.. ومرت مئات أو آلاف السنين علي الافتراق الكامل بين الروح والجسد.
وأخيرا بالقيامة قام الجسد, وارسل الله الروح لتتحد بالجسد وبلا شك أنها وجدته يختلف في بعض الأحوال عما كان من قبل, لأن الله لا يقيم جسدا بعيوب كانت له, فالأعمي لا يقوم أعمي, بل يقوم ببصر جيد, والأعرج والكسيح لا يقومان, كما هما, بل بأرجل سليمة, وهكذا باقي المعاقين لا يقومون بأية إعاقة, وأيضا المشوه والذي يمنحه الرب في القيامة جمالا. والذين بترت اعضاء من جسهم في حوادث أو جراحات... وركبت لهم أعضاء تعويضية, كل أولئك يقومون بأعضاء طبيعية سليمة..
هنا, يقف أمامنا سؤال هو: كيف ستتعرف الروح علي جسدها لكيما تتحد به, بعد تلك الغربة الطويلة والتغيرات الكثيرة؟ لاشك أن ذلك معجزة أخري! هل هي ترجع إلي ذاكرة عجيبة للروح؟ أم أنها نعمة معرفة موهوبة لها؟!
المهم أن كل روح تتحد بجسدها ثم يقفان معا امام الله العادل في يوم الحساب الرهيب أو يوم الدينونة العامة, لكي يقدما حسابا عن كل ما فعلاه خلال عمرهما الأرضي, خيرا كان أم شرا مما اشتركا فيه معا, وبعد صدور حكم الله عليهما, يذهبان معا إلي مصيرهما الأبدي..
هذا هو اللقاء الأول في القيامة.. وماذا عن اللقاء الثاني؟ إنه لقاء الأحباء معا, والأقارب والمعارف والأصدقاء... منه لقاء الأسرة التي فقد لها حبيب بالموت, ومرت علي ذلك سنوات لهم في الحزن والبكاء عليه, ثم يكون اللقاء معه في القيامة العامة... إنه لقاء الأرامل بالأزواج, أو لقاء اليتامي بالآباء والأمهات... وهنا أضع مثالا نادرا, وهو رجل مات وقد ترك زوجته حبلي, فولدت ابنا بعد موت ابيه, لم ير أباه قط, ولا يعرف شكله, هذا كيف سيتعرف علي أبيه في وقت القيامة؟! مثال آخر وهو التعرف علي سلسلة الأنساب: أي تعرف شخص علي جده وأبي جده, وجد جده وجد جد جده, إلي آخر السلسلة؟! من سيقوم بتعريف الأسرة علي أصولها...؟! ثم إذا كانت الأجساد ستقوم روحية غير مادية, كما نعتقد ــ فكيف ستكون عملية التعرف أو التعريف؟
ثالث لقاء هو لقاء الناس عموما, بعضهم بالبعض؟ علما بأن اللقاء في النعيم الأبدي سيكون فقط للأبرار مع الأبرار, أما الخطاة فإنهم سيطرحون خارجا في الظلمة, بعيدا عن نور الله ونور ملائكته وقديسيه...
وهنا تخطر لي بعض اسئلة منها: أم بارة كان لها ابنان: أحدهما بار ذهب إلي السماء, ورأته معها, والابن الآخر لم يستحق أن يدخل السماء, فلم تره أمه, ولن تراه... ماذا يكون شعورها وعاطفتها نحوه, مع معرفتنا بأن مكان النعيم الأبدي قد هرب منه الحزن والكآبة والتنهد, إنه مكان للفرح الكامل الدائم, فهل تلك الأم التي فقدت أحد ابنيها في الأبدية, سينعم الله عليها بنسيانه تماما, وكأنه لم يولد؟ أم أن مشاعرها ستكون كلها مركزة في الله وفي البر والأبرار, بحيث لا يخطر لها علي بال ذلك الابن؟!
مثال آخر: إنسان بار مات قتيلا. وكان قاتله قد ندم من كل قلبه علي القتل, وتاب توبة حقيقية, وقبل الله توبته وذهب إلي السماء, والتقي القاتل والقتيل معا في دار النعيم, كيف يكون شعورهما, وفي الأبدية لا توجد مشاعر خاطئة إطلاقا, يقينيا سيلتقيان بكل مودة وحب وفرح, ولكن من أي نوع ستكون تلك المودة وذلك الفرح؟
النوع الرابع من اللقاء في العالم الآخر, سيكون لقاء شعوب وأمم وأجناس, من الأبرار من كل مكان, من الجنس الآري إلي الجنس الزنجي, وما بينهما من أجناس حسب تقسيم علم الأنثروبولوجي: شعوب بيضاء وسوداء وصفراء بدرجاتها وأنواعها... حشد كبير لا يحصي. لا أدري كيف سيتعرفون علي بعضهم البعض؟ أم أن الله ــ تبارك اسمه ــ سوف يصنفهم صفوفا صفوفا, وفرقا فرقا حسب درجات إيمانهم ودرجات روحانيتهم ودرجات معرفتهم, والكل أبرار ومقبولون... ولكن هل يمكن لقاء الكل بالكل؟ أم هذا غير ممكن؟ هنا يقف عقلي محتارا, لا يعرف كيف يجيب, وعلي رأي الشاعر ذو الحجي من قال إني لست أدري.
وهنا تحضرني قصة أخ أرسل إلي قديس شيخ متوحد, في أيامه الأخيرة يقول له: اسمح لي يا أبي أن أزورك الآن وأراك قبل أن تنطلق إلي مستواك العالي في الأبدية حيث لا يستطيع ضعيف مثلي أن يقترب, فهل يعني هذا أن درجات الأبرار تكون في مستويات كل منها أعلي من الآخر, وليست الخلطة متاحة للكل! بل يرون من بعيد دون أن يندمجوا معهم ويعطلوا ما هم فيه من متعة روحية في الأبدية!
إن كان الأمر هكذا فكيف يتاح للأبرار اللقاء الخامس الذي هو اللقاء مع الملائكة, وما هم فيه من درجات يعلو بعضها بعضا؟! أم أن في الحياة الأخري عشرة مع الملائكة, دون أن يعني هذا اندماجا شاملا؟ أم هناك اندماج لأن عدد الملائكة لا يحصي, فيمكن لأعدادهم الوافرة أن تندمج بالبشر الأبرار, وبدء ذلك الشهداء منهم والأنبياء والرسل وسائر القديسين الذين سيكون لقاء الأبرار بهم نوعا من اللقاءات في الأبدية...
أخيرا يخيل إلي انني تناولت موضوعات أعلي من مستوي فهمي البشري, ويكفي أن نقول إنه ستكون لنا في الأبدية لقاءات عديدة تحدثنا عن أنواعها, أما كنه تلك اللقاءات ونوعيتها, فإنه من الأمور التي لم تعلن لنا, ولا يسوغ لنا الخوض في أعماقها...
ختاما أرجو لكم كل خير, وكل عام وأنتم في بركة ونعمة, مصلين من أجل رئيس دولتنا المحبوب محمد حسني مبارك أن يمنحه الرب قوة خاصة تسنده في جهاده من أجل حفظ السلام في بلادنا وما يحيط بها.