أهم صفات القديس مقاريوس التي بدت عليه منذ شبابه "الحكمة"، فكان أصدقاؤه ومحبوه يدعونه باسم بيدار يوجيرون أي "الشاب الشيخ" أو "الصغير صاحب حكمة الشيوخ".
وكانت له قدرة على استبطان الأمور، فبدت وكأنها روح نبوة، فكانوا يدعونه بالنبي اللابس الروح، أي حامل الروح القدس.
وكان صفوحاً معزياً، مقتدراً بالروح قادراً أن يقود جميع القامات والمستويات إلى المسيح. جمع في قطيعه بين أعنف النماذج مثل موسى الأسود، وأرق وألطف النماذج مثل زكريا الصبي الجميل أو أبوليناريا الراهبة السنكليتيكا (ربيبة القديسين) إبنة أحد رجال البلاط الملكي.
وكان وجهه يضئ بالنعمة، ولكن بصورة ملفتة للنظر، حتى أن آباءً كثيرين شهدوا بأن وجهه كان يضئ في الظلام، فأسموه بالمصباح المضئ. وقد انتقلت هذه الصفة أو هذه التسمية إلى ديره، فدُعى كذلك بمصباح البرية المضئ أو الدير المضئ، مكان الحكمة العالية والصلاة الدائمة.
ولكن أعظم صفات أو مميزات القديس مقاره كانت القوة الإلهية الحالَّة عليه، والتي دُعيت بالشاروبيم التي كانت مصدر قوته وإلهاماته وحسن تدبيره وسلطانه المخيف على الأرواح النجسة.
ثانياً: ذهاب القديس مقاريوس إلى شيهيت
قدم القديس مقاريوس إلى الإسقيط، أي شيهيت (وادى النطرون) على أثر رؤيا خاصة رآها وهو يصلي في بلدة شبشير (منوفية) التي رُسم كاهناً عليها، ولم تكن برية شيهيت غريبة عليه، لأنه كانت يتردد عليها في أيام صبوته مع قوافل الجمال التي كانت تعمل لحساب والده كاهن القرية، إذ كانت تنقل النطرون من وادي النطرون إلى ترنوت (الطرانه الآن) على النيل، حيث كان يُحمل في المراكب ويصدر إلى فرنسا وبلاد أخرى كثيرة.
وتحت تأثير الفرح من الرؤيا التي رآها، إذ ظهر له الشاروبيم بمنظر نوراني بهيج وشجعه، قام وسار إلى شيهيت حتى بلغه. ثم وقف حائراً يصلي ويطلب من الله أن يريه مكاناً لائقاً يسكن فيه، فقال له الرب على فم الشاروبيم: "هذه الإرادة هي لك، ها كل البرية أمامك لأني أخشى لئلا أعطيك وصية أن تسكن هنا أو هناك فيقاتلك الضجر أو الإضطهاد وتخرج من ذلك الموضع وتتجاوز الوصية فتخطئ. فليكن سكناك بسلطانك". وشجعه الشاروبيم وقال له: "إني سأكون معك كل وقت، كأمر الرب".
وكان القديس مقاره في ذلك الوقت قد ناهز الأربعين عاماً من عمره، ولما كان مولده في سنة 300م. فتكون بداية توحده في شيهيت حوالي عام 340م.
بداية دير البراموس
وقد اختار القديس مقاره المكان المعروف الآن بدير البراموس، وحفر لنفسه مغارة وبدأ يتعبد بنسك كثير. وسرعان ما ذاع صيته واجتمع حوله عديد من المريدين الذين أحبوه حباً جماً بسبب أبوته وحكمته والنعمة التي كانت عليه.
وبحسب التحقيق، فإن القديس أنبا مقار مكث في هذا المكان ما يقرب من عشرين سنة حتى اكتمل دير البراموس واكتظ بالمتوحدين الذين كانوا يعيشون في مغائر حول الكنيسة الرئيسية، إذ لم يكن هناك أسوار بعد.
وقد قام القديس أنبا مقار في هذه المدة بزيارة القديس أنطونيوس مرتين، المرة الأولى عام 343م. والثانية عام 352م. وقد تسلم من القديس أنطونيوس فضائله وتعاليمه، وألبسه أنطونيوس الإسكيم المقدس، وسلَّمه عكازه. فكان هذا نبوة عن تسلم مقاريوس رئاسة الرهبنة بعد أنطونيوس. وقد شهد له القديس أنطونيوس بأن قوة عظيمة كانت تؤازره بقوله له "إن قوة عظيمة تخرج من هاتين اليدين".
كما كان القديس مقاريوس يتردد على اقليم نتريا - حيث كانت جماعة الرهبان بقيادة القديس آمون، ليصلي في الكنيسة هناك كلما أراد الشركة في جسد الرب ودمه، لأنه لم تكن قد بنيت كنيسة في شيهيت إلا بعد زيارة القديس مقاريوس الثانية للقديس أنطونيوس أي سنة 352م