كلنا نؤمن بالخير , ونريد أن نعمل الخير.
ولكننا نختلف فيما بيببا فى معنى الخير وفى طريقته.
وما يظنه أحدنا خيراَ , قد يراه غيره شرا !!
فما هو الخير اذن ؟ وما هى مقاييسه ؟
لكى نحكم على أى عمل بأنه خير , ينبغى أن يكون هذا العمل خيراً فى ذاته ,
وخيراً فى وسيله ... وخيراً فى هدفه , وبقدر الإمكان يكون أيضاً خيراً فى نتيجه .
وسنحاول أن نتناول هذة النقاط واحدة فواحدة , ونحللها . وسؤالنا الأول هو : ما
معنى أن يكون العمل خيراً فى ذاته إ
فى الواقع ان كثيرين – بنية – قد يعلمون أعمالاً يظنونها خيراً . وهى على عكس ذلك
ربما تكون شراً خالصاً ..
مثال ذلك الاب الذى يدلل ابنه تدليلاً زا~داً يتلفه , وهو يظن ذلك خيراً !! ومثال ذلك أيضا الأب الذى يقسو على ابنه قسوة تجعله يطلب الحنان من مصدر اخر ربما يقوده إلى
الانحراف. وقد يظن ذلك الاب أن قسوته نوع من الحزم و التربية الصالحة . ومن أمثلة الزين يظنون عملهم خيراً وهو شر فى ذاته , أولئك الذين عناهم السيد المسيح
بقوله لتلميذه : (( تأتى ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنة يقدم خدمة لله )) .
إن الناس يختلفون فيما بينهم فى معنى الخير . ويختلفون فى حكمهم على الأعمال . ويتناقشون حول ذلك ويتصارعون. وقد يعمل أحدهم عملاً , فيعجب به الناس ويمتدحونه , ويسرفون فى مدحه , بينما يتضايق البعض من نفس هذا العمل الذى يمدحه زملاؤهم . ويتناظر الفريقان , وكل منهما يؤيد وجهة نظره بأدلة
وبراهين، ويتولي الفريق الآخر الرد عليها بأدلة عكسية. و يبقي الحق حائراً بين هؤلاء وهؤلاء.
من أجل هذا كان على الإنسان أن يتمهل ويتروى ، ولا يتعجل فى حكمه على الأمور.
بل عليه أيضاً أن يتروى قبل أن يعمل عملاً ، ويحاول أن يتاكد أولاً من خيرية تصرفه. ومن أجل هذا أيضاً أوجد الله المشيرين وذوى الخبرة و الفهم كأدلاء فى طريق الحياة. وهكذا قال الكتاب المقدس
( الذين بلا مرشد يسقطون مثل أوراق الشجر)). وأوجد الله المربين والحكماء . وجعل هذا أيضاً فى مسئولية الوالدين والمعلمين والقادة وآباء الاعتراف، وكل من يؤتمنون على أعمال التوعية والارشاد .
ولكن يشترط فى المرشد الذى يدل الناس على طريق الخير، أن يكون هو نفسه حكيماً، صافياً فى روحه ...
وينبغى أن يكون هذا المرشد عميقاً فى فهمه ، لئلا يضل غيره من حيث لا يدرى ولا يقصد. ولهذا السبب لا يصح أن يسرع أحد باقامة نفسه على هداية غيره ، فقد قال يعقوب الرسول: (( لا تكونوا معلمين كثيرين يا اخوتى ،لأننا فى أشياء كثيرة نعثر جميعاً))... حقاً ما أصعب السقطة التى تأتي نتيجة أن يتبوأ أي إنسان مسئولية الإرشاد فيضيع غيره... ولهذا قال السيد المسيح
( أعمى يقود أعمى،كلاهما يسقطان في حفرة)).
لذلك كان كثير من الآباء المتواضعين بقلوبهم يهربون من مراكز القيادة الروحية ، شاعرين أنهم ليسوا أهلاً لها ، وخائفين من نتائجها. وعارفين أن الشخص الذي يقود غيره في طريق ما ، أو ينصح غيره نصيحة معينة، إنما يتحمل أمام الله مسئولية نتائج توجيهاته ونصائحه، ويعطى حساباً عن نفس هذا الشخص الذى سمع نصيحته. وقد قيل في ذلك إن نفساً تؤخذ عوضاً عن نفس .
فعلى الإنسان حينما يسترشد أن يدقق في اختيار مرشديه، ولا يسمع لكل قول، ولا يجرى وراء كل نصيحة مهما كان قائلها . وإنا يتبع الحق وليس الناس . وكما قال بطرس الرسول
( ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس)). إذن الخير مرتبط
بالحق، ومرتبط بكلام الله إن أحسن الناس فهمه، وإن أحسنوا تفسيره، وإن ساروا وراء روحه لا حرفه .
إن كلام الله هو الحق الخالص ، والخير الخالص ، ولكن تفسير الناس لكلام الله قد يكون شيئاً آخر .
إن كلام الله يحتاج إلى ضمير حى يفهمه ، وإلى قلب نقى يدركه. وما أخطر أن نحد كلام الله بفهمنا الخاص!! وما أخطر أن نغتر بفهمنا الخاص، ونظن أنه الحق ولا حق غيره، وأنه الفهم السليم ولا فهم غيره..!
إن الذي يريد أن يعرف الخير، عليه أن يتواضع ...
يتواضع فيسأل غيره، ويقرأ ويبحث ويتأمل، محاولاً أن يصل وأن يفهم ...
وحينما يسأل، عليه أن يسأل الروحيين المتواضغين الذين يكشف لهم الله أسراره.
وعليه أن يسأل الحكماء الفاهمين ذوى المعرفة الحقيقية والادراك العميق. كما قال الشاعر :
فخذوا العلم على أربابه واطلبوا الحكمة عند الحكماء
لو كنا جميعاً نعرف الخير، ما كنا نتخاصم وما كنا نختلف ... علينا إذن –في تواضع القلب – أن نصلى كما صلى داود النبي من قبل
( علمني يارب طرقك، فهمني سبلك)).
إن الصلاة بلا شك هي وسيلة أساسية لمعرفة الحق، فيها وبها يكشف الله للناس الطريق الصحيح.
وهنا نسأل سؤالاً هاماً :
هل الضمير هو الحكيم في معرفة الخير؟ وهل نتبعه بلا نقاش ؟
أجيب وأقول: يجب على الإنسان أن يطيع ضميره، ولكن يجب أيضاً أن يكون ضميره صالحاً.فهناك ضمائر تحتاج إلى هداية.إن الأخ الذى قتل أخته دفاعاً عن الشرف،أو الأخ الذى قتل أخته لأنها أرادت الزواج بعد زوجها الأول... ألم يكن كل منهما مستريح الضمير في قتله لأخته؟! ألم يسر كل منهما على هدى من ضميره،وكان ضميره مريضاً ؟!
إن الضمير يستنير بالمعرفة : بالوعظ والتعليم ، بالاسترشاد ، بالقراءة ...
فلنداوم على كل هذا، لكى يكون لنا ضمير صالح أمام الله ...
لأننا كثيراً ما نعمل عملاً بضمير مستريح، واثقين أنه خير..!!
ثم يتضح لنا بعد حين أنه كان عملاًخاطئاً!
فنندم على هذا العمل، الذى كان يريحنا و يفرحنا من قبل.
وأمثال هذا العمل قد يسمى في الروحيات أحياناً (( خطيئة جهل )) ...
إن الإنسان الصالح ينموا يوماً بعد يوم في معرفته الروحية. وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر، فيعرف ما لم يكن يعرفه، ويدرك أعماقاً منالخير لم يكن يدركها قبلاً...
وربما بعض فضائله السابقة تتضح له كأنها لا شىء ،بل قد يستصغر نفسه حينما كان يتيه بها في يوم ما ..!
من هنا كان القديسون متواضعين...لأنهم كل يوم يتكشفون ضآلة الفضائل التى جاهدوا من أجلها زمناًطويلاً..!
وذلك بسبب نمو ضميرهم وشدة استنارته في معرفة الخير...
والخير يرتبط بنسيانه ...
إذ ننسى الخير الذى نفعله ، من فرط انشغالنا بالسعى وراء خير آخر أعظم منه، نرى أننا لا نعمله نحن، وإنما يعمله الله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا، لولا أنه من تواضعه ومحبته شاء أن يتم هذا الخير على أيدينا ، على غير استحقاق منا لذلك...
ولكن ما هو الخير ؟ وكيف يكون خيراً في ذاته ؟ وفي وسيلته ؟ وفي هدفه ؟ وفي نتيجته ؟
أرى أننى قد طفت معك حول إطار هذه الصورة ... التي ليتنا نستطيع أن نتأملها في مقال آخر إن أحبت نعمة الله وشنا ...