وعن القلب الهاديء المملوء بالسلام والطمأنينة .
ونريد اليوم أن نعرض للقلب الحنون ...
المملوء بالشفقة والحب ...
القلب القاسي ، باستمرار يحطم ويهدم . وقسوته لا تشفق ، ولا ترحم . إنه نار تأكل كل شيء ، حتى نفسها ...
أما القلب الحنون العطوف ، فإنه يفيض رقة وإشفاقاً على كل أحد ، حتى الذين لا يستحقون ، وحتى على اعدائه ...
وحنو الإنسان على غيره ، قد يشمل الكائنات جميعاً ... فيحنو على العصفور المسكين ، وعلى الفراشة الهادئة ، وعلى الزهرة الذابلة ... بل قد يحنو على الوحش المفترس ، مثل ذلك القديس الذي رأى أسداً يئن من شوكة في قدمه ، فانحنى وأراحه منها ...
وقد يكون الحنو في نواح مادية أو جسدية ، وقد يكون في نواح نفسية أو روحية .
وخلاصة الأمر أن القلب المملوء حناناً ، يفيض بهذا الحنان في كل الجلات ، وعلى الكل. فيشفق على الفقير المحتاج ، وعلى المريض المتألم ، كما يشفق على اليائس والمتعب نفسياً ، وعلى الساقط في الخطية المحتاج إلى من يأخذ بيده ليقيمه .
والحنان ليس مجرد عاطفة في القلب ، وإنما تتحول فيه العاطفة إلى عمل جاد من أحل إراحة الغير .
إن الحنان النظري هو حنان قاصر ، حنان ناقص ، يحتاج إلى إثبات وجودة بالعمل . ولهذا قال القديس يوحنا الحبيب : (( يا اخوتي ، لا نحب بالكلام ولا باللسان ، بل بالعمل والحق )) .
إن القلب الحنون يمكنه أن يكسب الناس . أما القلب القاسي فينفرهم .
الناس يحتاجون إلى من يعطف عليهم ، إلى من يأخذ بيدهم ، إلى من يشجع الضعيف ، ويقيم الساقط ، ويفهم ظروف الناس واحتياجاتهم . وتكون له روح الخدمة فيخدم الكل ،ويساعد الكل ويعين الكل ، ولا يحتقر ضعفات أحد ... كما قال الكتاب : (( شددوا الركب المخلعة ، وقوموا الأيدي السترخية )) ...
وقيل عن السيد المسيح إنه كان : (( لا يخاصم ولا يصيح ، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته . قصبة مرضوضة لا يقصف ، وفتيلة مدخنة لا يطفيء )) ... هذه الفتيلة المدخنة ربما تهب ريح فتشعلها ، فتضيء مرة أخرى ...
وكان حنوه يشمل الروح والجسد معاً . وهكذا قيل عنه في الإنجيل المقدس إنه : (( كان يجول يصنع خيراً )) ... كان يشفق على الارواح الساقطة فيقيمها بالتوبة ، ويشفق على الأجساد المريضة فيشفيها ... (( يطوف المدن والقرى : يكرز ببشارة الملكوت ، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب )) .
أحضروا إليه مرة امرأة خاطئة قد ضبطت في ذات الفعل، وانتظروا منه أن يحكم برجمها حسبما تقتضي الشريعة. أما هو فقال
(من كان منكم بلا خطية،فليرمها بأول حجر)) . وانصرف المطالبون برجمها لأنهم أيضاً خطاة . واطمأنت المرأة . فنظر إليها السيد المسيح وقال لها
( أين الذين دانوك ؟)). فأجابت : لم يبق منهم أحد )). فقال لها : (( وأنا أيضاً لا أدينك .. إذهبى بسلام . ولا تعودي تخطئي أيضاً ))... هذا هو الحنو الذي يكسب القلب، ويقوده إلى التوبة... فليتنا نحنو على الخطاة، لكي نكسبهم إلى الله.
إن الله يحنو علينا، حتى ونحن في عمق خطايانا. ومن دلائل حنوه أنه يستر ولا يكشف .
كم من الناس قد غطسوا في الشر حتى غطاهم ، ومايزال الله يستر ... لم يكشفهم ، ولم يفضحهم ، ولم يعلن خطاياهم للناس ... لأنهم ربما لو انكشفوا لضاعوا ، وانسد أمامهم الطريق إلى التوبة بعد فقدهم لثقة الناس .
إن القلب الحنون يستر خطايا الناس . لا يتحدث عنها ، ولا يشهر بها ، ولا يقسو في الحكم عليها ... بل قد يجد لهم عذراً ، أو يخفف من المسئولية الواقعة عليهم ... وإن قابلهم لا بفقد توقيره لهم ، معطياً إياهم فرصة للرجوع ... بل قد يضحي بنفسه من أجلهم ، ويتحمل المسئولية عوضاً عنهم ‘ن استطاع .
قال القديس يوحنا ذهبي الفم : ] إن لم تستطع أن تمنع من يتكلم على أخيه بالسوء ، فعلى الأقل لا تتكلم أنت [ .
] وإن لم تستطع أن تحمل خطايا الناس ، وتنسبها إلى نفسك لكي تبررهم ، فعلى الأقل لا تستذنبهم وتنشر خطاياهم [ .
إن القلب الحنون يعيش في مشاعر الناس . يتصور نفسه في مكانهم ، ولا يحرج أحداً . ويبرهن على نقاوة قلبه بعطفه على الكل ...
وهو يعرف أن الطبيعة البشرية حافلة بالضعفات ...
وان أقوى الناس ربما تكون في حياته ثغرات ...
وقد يسقط ، إن اشتدت الحرب عليه ، وإن تخلت عنه النعمة الحافظة ...
لذلك ينظر إلى الناس في حنو ، في قيامهم وفي سقوطهم أيضاً .
كان القديس يوحنا ذهبي القصير إن سمع عن أحد أنه سقط ، يبكي . فإن سئل في ذلك يقول : ] معنى هذا أن الشيطان نشيط . وإن كان قد أسقط أخي اليوم ، فقد يسقطني أنا غداً ... [ . وهكذا – في اتضاع – لم يضع هذا القديس في مرتبة أسمى من غيره . وبكل حنو نظر إلى سقطة غيره ، ونسبها إلى عمل الشيطان ، لا إلى فساد طبع ذلك الأخ .
وبهذا كان أقوى المرشدين الروحيين هم الذين يفهمون النفس البشرية ، ولا يقسون عليها في ضغفاتها .
إن القلب الحنون لا يعامل الناس بالعدل المطلق ، إنما يخلط بعدله كثيراً من الرحمة . ولا يجعل عدله عدلاً جافاً حرفياً يطبق فيه النصوص ، بل أيضاً يقدر الظروف المحيطة ، سواء كانت عوامل نفسية أو وراثية أو تربوية أو عوامل اجتماعية .
أما الذي يصب اللعنات على كل مخطىء ، دون أن يقدر ظروفه أو يفحص حاله ، فإنه قلب لا يرحم ...
القلب الحنون لا يحكم على أحد بسرعة ... بل يعطي كل أحد فرصة للدفاع عن نفسه ، ولتوضيح موقفه ...
هو أيضاً لا يكثر اللوم والتوبيخ ، وإن وبخ ، فإنما يكون ذلك بعطف وليس بقسوة . وقد يقدم لتوبيخه بكلمة تقدير أو كلمة حب ، حتى يكون التوبيخ مقبولاً. وإن احتاج الأمر منه إلى حزم وشدة وعنف ، فقد يفعل ذلك مضطراً . ولكنه في مناسبة أخرى يصلح الموقف ، ويعالج بالحنو نفسية ذلك المخطيء .
والقلب الحنون لا يخجل أحداً . ولا يحرج أحداً . وقد يشير إلى الخطاة من بعيد ، بألفاظ هادئة . وربما بطريق غير مباشر ، وربما في السر وليس في أسماع الناس .
أما الذي يرجم الناس بالحجارة ،فعليه أن يتروى ، لئلا يكون بيته من زجاج . وليعلم أن كل الفضائل بدون المحبة ليست شيئاً . والمحبة تتأنى وتترفق . والحكمة هي أن نكسب الناس بالحنو ، وأن لا نخسر الناس بالقسوة .